من صور تعاون السلف مع الوُلاة


نسخة (PDF)نسخة (PDF)
التصنيفات

الحمدلله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم وعلى اله وصحبه اجمعين، اما بعد:

إنَّ التعاون مع وليِّ الأمر واجبٌ شرعيٌ، وحقٌّ من حقوقه الكثيرة على رعيتهِ، ولقد أوجب الإسلامِ هذا الحقَّ واعتنى به سلفُنا الصالحُ، وأئمَّةُ الإسلامِ عنايةً خاصةً، وذلك للأهِّميَّةِ البالغةِ العظيمةِ لهذا الحقِّ، ولما يترتبُ على القيام به من تحقيق مصالح كثيرةٍ، ودفعِ مفاسد عظيمةٍ عن العبادِ والبلادِ.

قال الحسنُ البصريُّ -رحمه الله- في الأمراءِ: "هم يلُونَ من أمورِنا خمسًا: الجمعةُ والجماعةُ والعيدُ والثغُور والحدود، واللهِ لا يستقيم الدين إلا بهم" ([1])

وقد عمل سلفُنا الصالحُ بهذا الواجب الشرعيِّ، وهذه بعضُ صُور تعاونِ سلفنا مع الوُلاةِ والأمراءِ:

1-     فمن صور تعاونهم واحترامهم للسلطان وتوقيرهم له، وعدم إهانتهم له:

·    روى ابن أبي عاصمٍ في السُنَّةِ ([2])تحت باب: مما ذُكر عن النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- من أمرِه بإكرام السلطان، وزجرِه عن إهانتِه: عن معاوية بن أبي سفيان -رضي الله عنه- قال: "لما خرج أبو ذرٍّ -رضي الله عنه- إلى الرَّبَذَةِ لقيَهُ ركْبٌ من أهل العراقِ، فقالوا: يَا أَبَا ذَرٍّ، قَدْ بَلَغَنَا الَّذِي صُنِعَ بِكَ، فَاعْقِدْ لِوَاءً يَأْتِكَ رِجَالٌ مَا شِئْتَ، قَالَ: مَهْلا يَا أَهْلَ الإِسْلامِ، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «سَيَكُونُ بَعْدِي سُلْطَانٌ فَأَعْزِوهُ،منِ الْتَمَسَ ذُلَّهُ ثَغَرَ ثُغْرَةً فِي الإِسْلامِ».

2-          ومن صُورِ توقيرهم وتعاونهم للولاةِ وإعانتهم على ولايتهم:

·    ما أخرجَهُ ابنُ حبّان فيِ صحيحه ([3])عن عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الصَّامِتِ، قَالَ: "قَدِمَ أَبُو ذَرٍّ عَلَى عُثْمَانَ مِنَ الشَّامِ، فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، افْتَحِ الْبَابَ حَتَّى يَدْخُلَ النَّاسُ، أَتَحْسِبُنِي مِنْ قَوْمٍ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَقْعُدَ لَمَا قُمْتُ، وَلَوْ أَمَرْتَنِي أَنْ أَكُونَ قَائِمًا لَقُمْتُ مَا أَمْكَنَتْنِي رِجْلايَ، وَلَوْ رَبَطْتَنِي عَلَى بَعِيرٍ لَمْ أُطْلِقْ نَفْسِي حَتَّى تَكُونَ أَنْتَ الَّذِي تُطْلِقُنِي".

3-          وهكذا فعل عبدُ الله بنُ مسعودٍ -رضي الله عنه-:

فقد أخرج ابنُ سعدٍ كما في ِالإصابةِ ([4]) أنَّ زيدَ بنَ وهْبٍ قال: لَمَّا بَعَثَ عُثْمَانُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ يَأْمُرُهُ بِالْخُرُوجِ إِلَى الْمَدِينَةِ اجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ، وَقَالُوا: "أَقِمْ وَنَحْنُ نَمْنَعُكَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْكَ شَيْءٌ تَكْرَهُهُ، فَقَالَ لَهُمْ عَبْدُ اللَّهِ: إِنَّ لَهُ عَلَيَّ طَاعَةً، وَلا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ أَوَّلُ مَنْ فَتَحَهَا".

فما فَعَلَهُ ابنُ مسعود وأبو ذرٍّ -رضي الله عنهما- يُظهرُ لنا ما كانَ عليه سلفُنا من التوقير والتعاونِ مع الولاةِ، ويُبيِّنُ لنا مَنْهجَهُم وعدمَ رضاهم بالإثارة على الولايةِ القائمةِ، وليس كما يفعلُ أصحابُ الفتن والانحرافِ الخارجون من بلادهم العاصُون لولاةِ أمُورهم، المقيمون تحت حمايةِ عدوّهم، بعد نقضهم لبيعةِ أولياء أمورهم.

4-    ومن صور تعاون السلف مع الولاة: أنهم كانوا ينهُون عن سَبِّ الولاةِ والتشهيرِ بهم وغيبتهم:

فعند البيهقيِّ فيِ شُعب الإيمان ([5]) عن أنسِ بن مالك -رضي الله عنه- قال: "نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ مُحَمدٍ، قال: «لا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ، وَلا تَغِشُّوهُمْ، وَلا تَبْغَضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاصْبِرُوا».

وروى أبو داود الطيالسي في مسنده ([6]) وابن أبي عاصم في السُنّة([7]): قال زِيَادِ بْنِ كُسَيْبٍ العَدَوِيِّ، كُنْتُ مَعَ أَبِي بَكْرَةَ تَحْتَ مِنْبَرِ ابْنِ عَامِرٍ وَهُوَ يَخْطُبُ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ رِقَاقٌ، فَقَالَ أَبُو بِلَالٍ: انْظُرُوا إِلَى أَمِيرِنَا يَلْبَسُ ثِيَابَ الفُسَّاقِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرَةَ -رضي الله عنه- من تحت المنبر: اسْكُتْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ أَهَانَ سُلْطَانَ اللَّهِ فِي الأَرْضِ أَهَانَهُ اللَّهُ»([8])

5- ومن صور تعاون السلف مع الوُلاةِ: نصيحتُهم لأهلِهم بلزومِ الطاعةِ والبيعةِ للأمير:

 روى أحمد في المسند ([9]) عن نافع قال: " لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ لهم َإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ» (يقال هذه غدرة فلان) وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايِعَ رَجُلٌ رَجُلًا عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، ثُمَّ يَنْكُثَ بَيْعَتَهُ، فَلَا يَخْلَعَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ يَزِيدَ، وَلَا يُشْرِفَنَّ أَحَدٌ مِنْكُمْ فِي هَذَا الْأَمْرِ فَيَكُونَ صَيْلَمٌ (قطيعة) بَيْنِي وَبَيْنَهُ" -رضي الله عنه-.

6-ومن صور تعاون السلف مع الوُلاةِ: الدّخولُ عليهم لأمرهم بالخيرِ باللّين والرحمةِ والرفق:

في الصحيحين: قيل لأسامة بن زيد -رضي الله عنه-: "لَوْ أَتَيْتَ فُلاَنًا -يعْنُون عثمانَ بن عفان رضي الله عنه- فَكَلَّمْتَهُ، قَالَ: إِنَّكُمْ لَتُرَوْنَ أَنِّي لاَ أُكَلِّمُهُ إِلَّا أُسْمِعُكُمْ، إِنِّي أُكَلِّمُهُ فِي السِّرِّ دُونَ أَنْ أَفْتَحَ بَابًا لاَ أَكُونُ أَوَّلَ مَنْ فَتَحَهُ" ([10])

قال القاضي عياض (مرادُ أسامة: أن لا يفتحَ بابَ المجاهرةِ بالنكير على الإمام) ([11])

7-قال الإمام مالك -رحمه الله-: "حقٌّ على كلِّ مُسلمٍ جعل اللهُ في صدره شيئاً من العلم والفقهِ أن يَدْخُلَ إلى ذي سلطانٍ، يأمرُه بالخير، وينهاهُ عن الشرِّ، ويَعِظَهُ" ([12])

وقد أخذ -رحمه الله- هو وغيرُه من سلفنا ذلك من قوله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ أَرَادَ أَنْ يَنْصَحَ لِذِي سُلْطَانٍ فَلا يُبْدِهِ عَلانِيَة، وَلَكِنْ يَأْخُذُ بِيَدِهِ فَيَخْلُوا بِهِ، فَإِنْ قَبِلَ مِنْهُ فَذَاكَ، وَإِلا كَانَ قَدْ أَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ» أحمد والحاكم وهو صحيح.

8-من تعاون السلف مع الولاة: مناظرةُ الخارجين على الولاةِ وردُّ شُبهاتهم:

ذكر الخلّالُ في كتابهِ السُنَّة([13]): أن فقهاء بغداد جاؤوا إلى الإمام أحمد بن حنبل -رحمه الله- في ولاية الواثق يريدون الخروجَ عليه، فناظرهُم الإمام ساعةً، ثم قال لهم: " عَلَيْكُمْ بِالنَّكِرَةِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلا تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلا تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَسْفِكُوا دِمَاءَكُمْ وَدِمَاءَ الْمُسْلِمِينَ مَعَكُمُ، وَاصْبِرُوا حَتَّى يَسْتَرِيحَ بَرٌّ، أَوْ يُسْتَرَاحَ مِنْ فَاجِرٍ" ثم قال لهم: "قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «إِنْ ضَرَبَكَ فَاصْبِرْ» فَأَمَرَ بِالصَّبِرِ.

9--ومن تعاون السلف مع الولاة: الصلاةُ معهم والجهادُ والحجُّ تحت أمرهم، ولو كانوا فَسَقَةً، والأخبار عن سلفنا في ذلك كثيرةٌ جدًا منها ما أخرجه ابن أبي شيبة([14]) عن الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه قال: " كانوا يصلّون خلف الأمراء ما كانوا".

فأنكر سفيانُ الثوري على الحسن بن صالح تركة صلاةَ الجمعةِ خلف الأئمةِ، ([15])وصلَّى ابنُ عمر خلف الحجَّاج بن يوسف وهكذا أنس بن مالكٍ، والآثارُ كثيرةٌ.

10-ومن صور السلف في التعاون مع الوُلاةِ: التعاونُ في شئون القضاءِ:

ذكر الذهبيُّ في سيرةِ التابعي القاضي شُريحٍ الكنديِّ قاضي الكوفة ت80 هـ، "جَاءَتِ امْرَأَةٌ إِلَى عَلِيٍّ تُخَاصِمُ زَوْجَهَا طَلَّقَهَا فَقَالَتْ: حِضْتُ فِي شَهْرٍ ثَلَاثَ حِيَضٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ لِشُرَيْحٍ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْتَ هَاهُنَا؟ قَالَ: اقْضِ بَيْنَهُمَا. قَالَ: إِنْ جَاءَتْ مِنْ بِطَانَةِ أَهْلِهَا مِمَّنْ يُرْضَى دِينُهُ وَأَمَانَتُهُ تَزْعُمُ أَنَّهَا حَاضَتْ ثَلَاثَ حِيَضٍ تَطْهُرُ عِنْدَ كُلِّ قُرْءٍ وَتُصَلِّي جَازَ لَهَا وَإِلَّا فَلَا. قَالَ عَلِيٌّ أَحْسَنْتَ"

11-القاضي أبو خازم، قاضي القضاة في بغداد ت316 هــ، قال عنه الذهبيُّ: كان ثقةً ديّنًا ورعًا عالمًا ذكيًا، كامل العقل في سير النبلاء ([16]) "جلس يومًا في الشرقية، فأدّبَ خصمًا لأمر، فماتَ، فكَتَبَ رقعةً إلى المعتضد (أمير المؤمنين) يقول: إن دِيَةَ هذا في بيتِ المال، فإن رأى أميرُ المؤمنين أن يحملها إلى ورثته فعلَ، فحمل إليه عشرة آلافٍ فدفعها إلى ورثته" قال الذهبيُّ: قد كان المعتضد يحترمُ أبا خازمُ ويُجلُّهُ"

فمن هذه الآثار يطهر لنا تعاونَ السلف مع الولاةِ وتوقيرُهم واحترامهم وطاعتهم في المعروف.

وأخيرًا:

فإنَّ التعاونَ مع ولاةِ الأمرِ مقصدٌ شرعيٌ وضرورةٌ واقعيِّة طبَّقَهُ سلفنا الصالح وهو من مواضيع السياسة الشرعية في الإسلام.

والسياسةُ العادلةُ المحمود صاحبها هي الموافقةُ لشرع الله تعالى، وفيها بيانُ الأحكام للأمور المُستقرَّةِ والمُسْتَجَدَّةُ من نوازِل كلِّ عصرٍ، فهذه الشريعةُ صالحةٌ لكلِّ زمانٍ ومكانٍ، إلى قيام الساعة.

يقول الإمام الشافعي -رحمه الله- (لا سياسة إلّا ما وافَقَ الشِّرعَ) نقله ابن عقيل وفسَّره كما في بدائع الفوائد([17]).

وتقسيم الناسِ الحُكمَ إلى شريعةٍ وسياسةٍ تقسيمٌ باطلٌ:

قال ابن القيِّم -رحمه الله- (والسياسة نوعان: سياسةٌ عادلةٌ، فهي جزءٌ من الشريعة، وسياسةٌ باطلةٌ مضادة للشريعةِ، مُضَادَّةَ الظُّلمِ للعدل...) ([18])

وهذا الموضوع يندرج تحت السياسةِ العادلةِ وهو جزءٌ من الشريعةِ الإسلامية.

والحمدُ لله ربِّ العالمين.


  

 

 

 


([1])ذكره ابن رجب في جامع العلوم (2/217).

 ([2])(2/513)

([3])(الإحسان 13/301)

([4])(6/217)

([5])(2/7117)

([6])(2/928)

([7])(1018)

([8])رواه الترمذي وهو في صحيح الجامع (6111).

 ([9])(5088)

([10]) رواه البخاري (3267).

([11])فتح الباري (13/52).

 ([12])ترتيب المدارك (2/65)

 ([13])ص95

([14])(2/378)

([15])سير أعلام النبلاء (7/363)

([16])(13/541)

([17])(3/152)

([18])بدائع الفوائد (3/155)